| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأثنين 10/1/ 2011

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير - كما يقول -. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق - ما استطعنا - من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه - عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"
(*) - للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
في أيار/حزيران
(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب (1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد " (*) . فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني
(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق)
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ .... إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك . كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة).
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.

* * * *
(1)
لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.
(*) "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 
 

2 - الدرب الطويل
(15)

وما نصيبي أنا
نصيبي دون نصيبك. هذا ما لاشك فيه. ولسنا نعلم ما ستأتي به الأيام؟ أجل، نصيبي دون نصيبك، وقد استوفيته قبلك. ذلك بمقدار ما أنت عليه من قدرة ومعرفة، وصبر وجلد، وتفانٍ من أجل مُثلك التي صممت أن تهب لها كل وقتك، وحتى حياتك.
لقد نقلتُ إلى لواء آخر، ثم فصلت من الوظيفة ، حيث نقلت إلى الحيرة في 19/8/1946، وفصلت في 12/10/1946. وأنت تعلم إني لا أملك من حطام الدنيا شيئاً. غير ساعديّ إن استطعت أن أجد عملاً أقيت من ثمره لأحمل عبئهم. وتلك مشيئة المهيمنين على أمورنا. ولعلها، وهذا محتمل تماماً، من نقمة أولئك الذين انتزعنا منهم الفرصة، فأخذنا بعض حقنا، واستمروا يبحثون عن هفوة منا، ينفخون بها حتى تكبر، فيفجرونها ليدمرونا، وقد فعلوا.
فماذا فعلتْ جمعية المعلمين؟ الواقع إنها تستطيع أن تفعل، ولكن فقط ما يوجهها إليها السادة الكبار! إنهم يعتقدون إن طوفاناً يحيق بهم. فتأهبوا لإسكات كل صوت، وإخماد كل حركة تصدر ممن لا يؤمن ولا يثق بسلطانهم.
وأنت في أعماق سجنك، هل تذكر أو تفكر إنك أقدمت ونفذت الخطوات الأولى؟! لكن كم أنت مدرك، وكبير الفهم للأبوة، لذا كان الوالد أيضاً يوليك كل الحب، ومعجب بك كل الإعجاب. قرأ رسالتك وأنت تُعلمه فيها رغبتك في الزواج. وانه ترجو منه أن يجري هو عقد زواجك. فهو يشعر لهذا بروحية كبرى، وسعادة غامرة. لكن الوالد أجاب "إن العيال مجبنة؟! وأنت في طريق الجهاد، تغذ السير مكافحاً، تترصدك عيون الذئاب والوحوش الأخرى الكاسرة".
لكنك أجبت "لأزداد تشبثاً بالحياة". فكاد يطير إعجابا، ولبى الطلب.
ماذا لديك؟ وماذا لديّ. لديك القناعة. غرفة واحدة وأثاث بسيط تسعه الغرفة. لتضم أثنين رَضيا بالكفاف من العيش، لأن سعادتهما منوطة بسعادة الآخرين. ثم ذهبت الريح الصفراء بكل الأماني. فهل تنكشف الأجواء يوماً عن فجر صادق، يمزق هذا الظلام الرهيب؟!
تحملنا سنيّ الحرب وويلاتها، نفضح المستغلين والمحتكرين، من أجل جماهيرنا الكادحة ومن أجل عيش كريم، فنافستنا جيوش الحلفاء التي أقامت في عراقنا الحبيب خلالها. كنا نصدر القمح والرز، واليوم لا نحصل إلا على الخبز الأسود والرز المخمور! والسكر الأصفر المليء بالشوائب، والأقمشة العادية. ولكن أهم ما افتقدنا هو تلك الحرية الباهتة التي كنا نتمتع بها في أوائل الثلاثينات.
وددت أيها العزيز عليّ، لو إني في وظيفتي ذات المرتب البسيط. إذن لقمت بما يتحتم عليَ، وهو دون حبي لك، ولكن وا أسفاه. إن الضربات كانت شاملة لكل الأحرار. إنما الحال تختلف بين ناس وآخرين. بين من لا يملك غير ذلك المرتب الهزيل، وبين ذوي ذخر وملك؟!
كان عدد من فصل من الخدمة، من النجفيين، تسعة معلمين، اثنان منهم متهمان بالنازية، واثنان من موظفي الصحة متهمان أيضاً بالنازية. وكانت قوائم الفصل قد شملت مختلف الألوية، من مختلف الوظائف. والعبارة التي وردت في كتاب وزارة المعارف عن فصلنا غامضة (لتدخلهم بأمور لا تخص واجب الوظيفة). وأستطاع أكثر المفصولين أن يجدوا العمل، فالبعض له ولذويه إمكانية، وبعضهم في إدارة عمل يدر عليه راتباً محترماً. بينما أنا والشاعر مرتضى فرج الله والمعلم جواد شبيل لم نكن نملك غير التوقيفات التقاعدية، ولم اسلم منها إلا على 140 دينار، ففتحت حانوتاً عجز عن الاستمرار خلال ستة أشهر.
ما أيسر ما طلبت مني يوم حصلت –بعد جهود ومراجعات- على ما أستحق من توقيفات تقاعدية، وغادرت بغداد إلى أهلي، على أن أعود إليك بزوجة المستقبل القريب. فيأتي النبأ المخيب للآمال، إنك قد احتجزت، بعد أن ضحك الثعلب الماكر على القوى الوطنية، وشتت وحدتها، وأكمل مسرحيته "الانتخاب"
* * * *
كان حانوتي بسيطاً في شكله، ومحتوياته مواد معيشية، رز، ماش، حمص ، سمن وأشياء من هذا القبيل، مع سكر وشاي، وسكريات للأطفال، وبعض المواد الطبية، كحبوب الأسبرين، وما ينفع اللوزتين، وعشبيات للنزلة الصدرية. كما إن بعض الصيادلة زودوني بزيت السمك بدون احتساب ربح له على سعرها. لكن الذي فت في عضدي، وأصاب حانوتي بالكساح، السمن، والسكر والشاي. لم أستطع أن أجهز الحانوت بغير نوع واحد من السمن، بينما لدى سائر البقالين عدة أنواع، كما إني اشتري السكر والشاي من الموظفين الذين كانت بحوزتهم بطاقات تموين كثيرة، تجاوزت عند بعضهم الثلاثين! طبعاً كانت تلك الأساليب تتعاطاها مختلف الدوائر الرسمية، ودائرة النفوس هي الأساس. فمن أستطاع أن يأتي بدفتر نفوس وكل دفتر يقابله دفتر كوبونات للتموين من السكر والشاي والرز والقماش. وعلى هذا فقد زادت نفوس العراق زيادة عظيمة فجأة وبقدرة قادر!
حين نقلت من مدرسة غازي إلى مدرسة الحيدرية، تحول مدير المدرسة إلى وظيفة تموين، وعين في قضاء المسيب، بمساعدة الوزير صالح جبر صديق والده. وتمكن بعد سنة من عمله في التموين من امتلاك دار، كما انه صار يتاجر، وأمتلك معمل مكائن طحين!
كثيرون هم الذين سلكوا هذا المسلك، وكانت لهم القدرة التامة على التحسس بالخطر فيتفادونه، باللجوء إلى ذات المصدر الذي ساعدهم على التعيين فيه.
وحين تدهور حانوتي، تفضل صديقي "جواد كاظم شبيل" وعرض علي أن أتحول شريكاً له في حانوته، وتقدم صديق آخر فأقرضني ما يساوي ما قُدرَ من محتوى حانوت صديقي. في هذا الحانوت المشترك، الذي يساعد موقعه على بيع وصرف علب السجاير بنسبة عالية لمجاورته إلى كراجات سيارات الكوفة وأبي صخير والديوانية والناصرية. ولهذا كنا نبيع البانزين وزيت السيارات بكثرة. مما جعل دخلنا سميناً في موسم الزيارات. وتحسنت حالنا نوعاً ما. لكننا قد اتفقنا سلفاً أن لا نخصص للصرف المعيشي أكثر من سبعة دراهم للواحد؟
وسرعان ما دهتنا داهية، هدمت أمانينا، فوكيل شركة النفط قد أعلن انه سيبيع البانزين "فَلّة" كان ربحنا من البانزين لا يزيد على أربعة فلوس ونبيع الصفائح "الفارغة" الواحدة مئة وأربعين فلساً على السمكري، ففي مواسم الزيارات والأعياد يرتفع الدخل اليومي إلى مئة دينار، بفضل سعر تلك الصفائح الفارغة!
تقابلنا نحن باعة البانزين وقررنا مواجهة وكيل الشركة "محمد جواد عجينة" الذي كان الناس يتحدثون عن ربحه من النفط ومشتقاته الذي يصل خالصاً مئة وخمسين دينارا لليوم الواحد. وعبثاً ذهبت محاولاتنا في إقناعه، فأنهار دخلنا.
مضافاً إلى هذا إني ضويقت من مالكة البيت فاضطررت إلى الانتقال منه إلى بيت والدي، فتفجر ضدي غيظ لعدم تقديم مساعدة، وكأنهم لا يعلمون ما أنا فيه من حرج.
الغريب إني يوم قرأت قرار الفصل في الجرائد، لم أبتئس، لسبب قد لا يراه الآخرون ذا أهمية. كنت قد جلبت أبني الذي كان قد نجح إلى الصف الثاني في الابتدائية، ولما وجدت الصف الثاني بعهدة معلم، سبق وان فصل قبل عام لسلوك شائن، فضحه فراش المدرسة. وقد أتصل بمدير المعارف يوم خميس، وفوجئ المعلم المحترم نائماً بين حضني مدير المدرسة وابن رئيس القرية؟! فكانت ثورة السيد مدير المعارف وقد سارع بالتحقيق، الذي وقف فيه ابن رئيس القرية –وكان في حال سكر شديد- بصراحة يعلن عن حقيقة ممارسة الفعل الفاحش مع –حضرة المعلم- وفصل هو ومدير المدرسة. ولكنه أعيد بعد أمد قصير!؟
يوم قرأت في الجريدة أمر الفصل، كدت أطير فرحاً ساعتها، لم أفكر إلا لخلاصي من مدرسة تضم هذا "المخنث" وقد سبق أن فاتحت مدير المدرسة الطيب، أن أسحب شهادة نقل ولدي، فاني آنف أن يكون مؤدبه من أمثال هذا؟
مدير المعارف "الركابي" صادف أن مرّ ذات يوم على حانوتنا، فهنأني. فقلت له "ألم أقل لك أني مستعد لخوض غمار الحياة في غير جو الوظيفة، مادامت غايتي ليست الياقة المنشاة؟!".
وبمناسبة نبأ قرار تقسيم فلسطين، أوعز إلى المسؤولين أن تنظم مظاهرات احتجاج، فخرج طلبة الثانوية بأشراف مدير المدرسة ومدرسيها، وكنا قد سبقناهم في تنظيم جماهيرنا من الكادحين والطلبة أنفسهم، وأعددنا اللافتات المناسبة، وعند بلوغ الطلبة مدخل السوق الكبير رفعت اللافتات. حاول مدير المدرسة أن يحول دونها فلم يقوَ على ذلك، مما أضطر أن يستنجد بالشرطة. الشرطة تريثوا واكتفوا بالمراقبة، ينتظرون وصول المظاهرة إلى صحن الروضة الحيدرية، هناك أعلنت الهتافات المنددة بالاستعمار، وبالدول التي وافقت على التقسيم، وبحكامنا المتخاذلين أمام المستعمرين، وبسالبي حرياتنا، والمتلاعبين بخبز الشعب وناهبي خيراته. حاولت الشرطة أن يتعرفوا على المندسين -على حد قولهم- فلم يتمكنوا. إذ أن كل صوت كان من الطلبة، وقادة المظاهرة كانوا متسترين بلحية تنكرية فاضطروا إلى تشتيتها بالحسنى، إلا مطاردة خفيفة تعرض لها بعضهم ونجوا بفضل التنكر.
أنا وشريكي لم نبرح حانوتنا. لاحظنا أثنين من أفراد الشعبة الخاصة يراقباننا، أحدهم دنا منا وسلم بحجة شراء سجاير. وقال "مظاهرة خرجت قبل نصف ساعة، احتجاجا على تقسيم فلسطين".
قلنا لم نسمع بهذا، ربما لأنها صغيرة. أجاب "لا، لا، إنها ضخمة، إنها من طلاب الثانوية، وبأمر المسؤولين. كانت منظمة وهادئة، لكن أندس بها أعوان الشيوعيين، فتغير كل شيء فيها، الهتافات اللافتات". كان وهو يتكلم يرقب أسارير وجهينا. كان يدعى "أرزيج" مصغر "رزاق".
وسبق له التعرف عليّ لأول مرة، حين أرسل إليّ من قبل معاون شرطة المركز. التقى بصاحبي وسأله عني، أجابه لا أعرفه. فأعاد عليه الاسم كاملاً "علي الشبيبي"، وكرر صاحبي اعتذاره. قلت لصاحبي "أصعد وأختبئ في المخزن كيلا يجدك هنا فتكون كاذباً".
كنت في هذه الأثناء، أكتب الفصل الثاني من رواية "تلميذ في العاصمة" حول حياة أخي حسين، ابتداءا من دخوله كلية الحقوق، ثم حرمانه منها لأسباب مادية، وبقائه في التعليم، ثم نضاله في بغداد (لهذه الرواية حكاية غريبة. فلقد باشرت في كتابتها ثلاث مرات. هذه الأولى وقد مزقها صاحبي مخافة أن تجري الشرطة تحرياً على الحانوت، فيعثرون عليها. والثانية في الناصرية، وعندما أخذت مخفوراً إلى بغداد في 9/1/1948 وأتلفت من قبل من أودعتها عنده. والثالثة في قضاء الخالص أودعتها عند شخص لأستعيدها بعد عطلة نصف السنة فأتلفها عام 1963. أحد أبطال القصة أستشهد بهذا البيت للشريف الرضي:

تمتع من شميم عرار نجد       فما بعد العشية من عرار

وحقاً كانت يوماً ما بعده من عرار، وأقبل الشرطي "ارزيج" نفسه. وقف أمامي وأبلغني، إن المعاون يطلبك. قلت لا بأس، أذهب، سوف أدعو من يقفل الحانوت أو أذهب أنا وأرسل المفاتيح إلى أهلي.
كان المعاون كردياً، وجدته مشغولاً في مكالمة تلفونية، وحالما دخل الشرطي معي إليه، ختم مكالمته "نعم سيدي، هذَ هو .... نعم ... نوقفه؟ حاضر؟!"
ونادى الشرطي، خذه للتوقيف، وشيعني بالشتائم. ولم تجد محاولات بعض معارف أبي من أصدقاء المسؤولين، إذ كان الأمر من التحقيقات الجنائية، ومن أجل أن أرسل إليها مخفوراً. بتّ ليلتي في مركز شرطة النجف، وصباح اليوم التالي 2/3/1947، توجه بي شرطي إلى الكراج، وأحتجز مقعدين لي وله، كانا في صف يقابل الصف الذي يقع خلف السائق. وقد جلست على هذا المقعد فتاة إلى جانبها طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، ومقابل الفتاة فتى تخرج حديثاً من دار المعلمين العالية، ومرشح للبعثة لأخذ شهادة الدكتوراه في التأريخ "قسم الآثار" من أسرة دينية تعرف بآل حَرج، لكن المحدثين منهم أبدلوا هذا اللقب بوائلي. والى جانب السائق فتى فارسي الأصل يدعى "حسن بهبهائي" يشتغل أجيراً في حانوت، ومن هواة فن الرسم، إلا انه يمارسه عن غير ثقافة وإلمام بهذا الفن، ومع ذلك فقد كان عليه إقبال ممن يحب أن تكون له صورة مكبرة وبالألوان الطبيعية. كان الشائع عنه انه من مرتبات "الشعبة الخاصة". وما أن تحركت السيارة وصارت خارج حدود المدينة حتى توجه الشابان "الوائلي والبهبهاني" لمغازلة الفتاة، بينما هي في شغل عنهما. إنها هي أيضاً في مصيدة الشرطة؟
خاطبوها مباشرة، وكأن بينهما وبينها سابق معرفة. قال أحدهما "الليلة البارحة كنتِ في الكوفة عند -جليل ...- وشى بك منافس له، لأنه يحبك. لم يمس جليل بأذى، أنتِ صرتِ الضحية. والله يابه أنت حبابه. عندما نصل كربلاء أكلف عمي يخلصك!"
كان الوائلي يعرفني جيداً، لي صلة بعمه وأبيه، وبه عن طريقهما، لكنه تجاهلني، وكرّس كل اهتمامه بالغزل المهذب؟! وسألتْ الطفلة أمها، عن سبب وضع الكلبجة "القيد" بيدي؟ أجابت أمها بانفعال "لأنه مو سرسري، السرسرية متخاف منهم الحكومة!؟"
لم تكن هي مقيدة اليد مثلي، فهي من عداد السرسرية؟! أو لأنها أنثى على أية حال. كان جوابها وخزاً للشابين، لو كانا ذوا غيرة على نفسيهما. الجاسوس الفنان أطلق على الجواب ضحكة طويلة، وأستمر بالتحرش.

في كربلاء
وكربلاء، المدينة المقدسة، عند طائفتنا الشيعة، هي البقعة التي أستشهد فيها الأمام الحسين، بعد مضايقته من يزيد بن معاوية، ودعوة العراقيين أن يتوجه إليهم، فهم أصحاب أبيه وموالوه.
ولكن العراقيين كانوا بالأمس ومازالوا يخضعون للقوة، ويدينون للقوي، وان شتموه في الباطن، بل يحرضون عليه في الوقت الذي يصفقون له، ويسبحون بحمده. فمسألة مكاتبتهم له، بالتوجه، ثم التخلي عنه، بعد أن أستطاع والي بني أمية "عبيد الله بن زياد" أن يفتك برسوله وابن عمه "مسلم بن عقيل" ليست بغريبة، فالقوة والمال يضمنان لمن يملكهما أن يملك زمامهم، ثم يذبح منهم من يذبحه كما يذبح البهيمة.
مازال التأريخ يحدثنا كيف جاء الحجاج وارتقى المنبر وقد أسدل عمامته على نصف وجهه، ولازم الصمت، فتهامس المجتمعون تحت المنبر وحوله. وتجرأ أحدهم فسلقه بنواة، وثنى الآخر، وكأنها طبيعة الماعز إذا قفزت واحدة أو عطست، سرت فعلتها إلى كل الماعز. فلما رأى ذلك منهم أنشد:

أنا بن جلا وطـــلاع الثنــايا      متى أضع العمامة تعرفوني

وكشف عن وجهه، وأمر أن يقوم كل منهم ممسكاً بيد رفيقه، وخطب خطبته المشهورة، مهدداً متوعداً أن يأخذ البريء بالمجرم، إلى آخر الحكاية ...
والحكام في كل زمن وفي كل الدنيا إن لم يبد الحاكم منهم الحزم، يضرب على الذنب الصغير، ويقتل الأكبر –ربما متوهماً- فانه لن يستطيع أن يثبت أركان حكمه، ويمكن الصلحاء منهم بعد أن يستتب لهم أمر الحكم، أن ينشر الخير والسلام، ويشيدوا ويعمروا للجميع، هذا رأي الكاتب المعروف "ميكافيلي" في كتابه الأمير!
حتى الأنبياء المرسلون لا يشذون عن هذه القاعدة، ومن شذ ولزم قاعدة عيسى بن مريم "من ضربك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن" فلابد أن ينتهي نهاية عيسى، بدون أن يصعد إلى السماء. فما يروى عن نبينا محمد (ص) انه قال "من اُغضبَ ولم يُغضِب فهو حمار"
قبر الأمام شهيد الحق والبسالة والإباء، لم تقو السنون والحقب منذ عهد بني أمية، وما فعل المتوكل العباسي، ومحاولات الوهابيين، ظل علماً يثير في نفوس الأباة، ورواد الحق، حاملي رايات الجهاد، الحمية والثبات، والقدوة.
أنا لا أذم الذين أعلنوا دعوتهم مسالمين، ينكرون استعمال القوة، ويتمسكون بالأسلوب "وجادلهم بالتي هي أحسن" أمثال غاندي في عصرنا. أبداً إنهم أبطال حق ورأي.
وبقدر ترددي على كربلاء بصحبة أبي، أو حين صرت شاباً مستقل الكيان، فأني لا أعرف عنها إلا النزر القليل. لم يسبق لي إني تجولت فيها، ولا عرفت محلاتها. وحين وصلت بصحبة الشرطي مكبلاً بسلسلة ثقيلة، توجه الشرطي بي إلى غرفة وسلم كتاباً عني، وأستلم وصلاً، واُمِر شرطي آخر، أن يأخذ بيدي إلى الموقف، كان هذا في يوم 2/3/1947.
كان توقيفي هذا لأول مرة في حياتي. حين دفعني الشرطي دفعة طفيفة، شيعني بكلمة احترام من النوع الذي يراه الشرطي مفخرة له، وعنواناً لأهميته "فوت، فوت أفندي، شتريد أتصير، بمكان الملك فيصل؟ وين المقَرضَ الفار ......"، نسيت التكملة.
ودهشت أن استوى اثنان من الموقوفين، واقفين يرحبان بي، وصافحاني، كأنما لهما بي سابق صلة، وإن أحداً نبأهم عني. لا أدري.
كنت أعاني من صداع شديد، كان هو داءا قديماً، كثيراً ما يصيبني خصوصاً عند الانفعالات النفسية. جرني الرجلان حيث يجلسان وعرفاني باسميهما، أذكر الآن أحدهما "حاج عبد" من أتباع أو خدم "شيخ حميد كمونه" وانه موقوف بتهمة قتل.
أعرف آل كمونة، معرفة وجيزة أيضاً. وأتذكر أيام كنت في سلك العلوم الدينية، معمماً متواضعاً، وعضو في جمعية الرابطة الأدبية في النجف، إن رئيس الجمعية عبد الوهاب الصافي أرسلني إلى كربلاء، لأبلغ الشيخ محمد رضا الشبيبي، ومعه عبد المهدي المنتفكي، وهما ضيفان عند الشيخ محمد علي كمونة.
توجهت إلى كربلاء أحمل معنوية عالية لهذا التكليف والاختيار من معتمد الجمعية، إلى الشيخ الجليل وصاحبه. وقد أديت المطلوب، وشاركت بالغداء في ديوان الشيخ محمد علي كمونة، ولعل الشبيبي في ضيافته عنده، كانت للنسب الذي يجمعه بالكموني. فنحن آل الشبيبي أسديون من الكبائش، وكانت الزعامة فيها قبل أسرة "سالم الخيون" لجدنا "شبيب" الذي ترك الزعامة فجأة وأنخرط بسلك الروحانيين، وهو أول من سكن منهم النجف.
الموقوفون حين يلتقون تجمع المصيبة بينهم، فهم هنا ديمقراطيون تماماً ونادراً ما تجد موقوفاً يتعالى على الآخرين من نزلاء الموقف. وغالباً ما يكون ذاك معقداً أو من أبناء الأرستقراطيين ومدللاً ما يزال أقرب إلى الطفولة.
لذا كشف لي الحاج عن التهمة التي أوقف بسببها، وهو بريء. ورغم أنك لا تجد موقوفاً أو سجيناً أو حتى من يصدر عليه الحكم، إلا ويدعي البراءة مما أسند إليه.
الثاني كان ظريفاً منطلقاً كل الانطلاق، كانت قضيته بسيطة جداً، وربما يخرج غداً من التوقيف. وبالطبع بادلتهم الحديث وذكرت حكايتي كما حدثت.إذ لم أكن في الواقع أعلم عن أمري شيئاً.
أحد الموقوفين لزّ كلمته لزاً، كمن يفخر بأنه يعرف مالا يعرفه أقرب الناس إلى آل كمونه، وقال "أويلي، دبرته مرته لفرخه وطاحت بي!". فغر حاج عبد فاه، وصاح به، أنضبط، أنتَ منو، جرد مگدي. وضج الموقوفون بالتعليق -وعددهم لا يزيد على العشرين- "أي محمد، تصلح والله مختار، وغيرها من التعليقات".
لم يعرف القاتل إلى يومي هذا، ولكن أكثر الناس يقولون هذا الرأي "انه كان غلامياً، وكان لديه غلام يؤثره حتى على نفسه، وله زوجة جنابية أغرت أحد أقاربها، أثناء ما كان شيخ حميد وصحبه في ضيعة له في قرية الأبيتر، وأخطأ هذا الهدف فأصابت زوجها بدلاً من الغلام، وقد وجهت التهمة لعدد كبير من يشك فيهم ولم يصلوا إلى المتهم الحقيقي".
كانت لهجة محمد شعبية تمتزج باللكنة الفارسية. أبى أن يصمت على إهانة حاج عبد، فراح محتجاً فاشتدت لهجته بالخلط، فصاح أحد الموقوفين "محمد تره صدك أنت من خزاعل باب الصحن!". يشير بهذا إلى انه من المتسولين، فراح محمد يفاخر "أنت شنو تعرف مني؟! أنا لزم ورث من أبوي ستَّ حوش وخان أثنين، وأربعة بستان. لكن تلفته كل هذا على حَسن حلو".
قال حميد "أشهد بالله صحيح، آنه أعرف حسن، كان حلو زمانه، ومحمد صرف عليه كل أملاكه، وأكل خـ... بيده الاثنين، تاليه هذا حال محمد. وياما، ياما وصل للموت بسبب حسن حلو، يطاردون وراه أهل الشغل؟! ومن يجي محمد يوسدوه المنية. ها محمد. تمام؟".
صاح محمد "أسكتي أنتَ، والله انَه جان يطبك كل أثنين سوه ويضربهم ربعَهه".
لم أتمالك نفسي من الضحك، رغم شدة الصداع. ولحظت إن حميد يهمس إلى من بجانبه، ثم أشار إلى الآخرين "يا جماعة، هسَه محمد سمعتوا شگال عن قوته، خل يتقدم، لو آنه لو هوّه. آنه أگدر أطبك ثِلَث زلم وأرفعهم بأصبع واحد، وأنقلهم بهالغرفة من الطول للطول"
أيده الجميع إلا محمد، فأنتدب حميد أثنين ذوي سواعد قوية، ناما على ظهريهما مُختلفي اتجاه الرأسين، وقال لمحمد ، قوم أنت نام على ظهرك فوقهم، ثم قال "ها أتذكرت، أتحزم وشد احزامك زين حتى أشيلكم من حزامك؟!"
ونام محمد وهو يضحك بينما شد الاثنان بأيديهم على صدره ويديه ورجليه. ونهض حميد فكشف عن أسفله، وراح ينتف الشعر من ..... بلا رحمة. وعلا صوت محمد مستغيثاً "مفوز –مفوض- ... شرته –شرطة-...!" وجاء شرطي يهرول فبهت أول الأمر، ثم شاركنا بالضحك دون أن يتمالك وأقبل المفوض، هو الآخر أندهش ثم أدركه الضحك فأغرق فيه، ومحمد يستغيث ويشتم. صاح به المفوض، قواد أحسن بَعد ما تخسر عليهه دوَ حمام؟. وأطلقوا سراح محمد من أيديهم، والدم ينزف، بينما قضى حميد على كل الشعر في موضع ...!
 

يتبع


السويد ‏10‏/01‏/2011


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (5)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (4)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (3)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (2)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - الدرب الطويل (1)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (22)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter