علي عرمش شوكت
الأربعاء 30 / 5 / 2007
الظهيرالحلقة الثامنة
علي عرمش شوكت
كانت الفترة الزمنية الفاصلة بين لقاء ولقاء مع مسؤوله الحزبي - الذي اصبح بعيدا- يعوض عنه وصول التوجيهات وخطط العمل عن طريق( البريد الاعمى ) ولكن يبقى ذلك غير كاف لدى حميد ، الذي تشعبت ارتباطاته ومهماته الصعبة خصوصا وان اغلب الكادر قد انقطعت به السبل في تلك الفترة الحرجة لاسباب عديدة .
لقد استلم حميد البريد الحزبي في اللية الماضية ومن جملة ماورد فيه، الطلب منه الاتصال بالرفيق( بدران رسن ) ، ولم يكن ذلك بالامر السهل ، اذ ان عملية الاتصال كان مقررا لها ان لا تتم مع الرفيق بدران مباشرة بل عبر والدته التي اخذت مكان عمل ابنها ( بيع السمك ) في سوق بغداد الجديدة ، وطريقة الاتصال هذه قد جاءت في حيثيات طلب الاتصال .
كانت تلك الظروف تفرض احكامها على المناضلين المعارضين ، ومنها عدم التحرك في وضح النهار ، وتلك صعوبة اخرى امام حميد لانجاز مهمة الاتصال التي تتطلب التحرك نهارا ، حينها يكون السوق مليئا بالحركة وكثافة الجواسيس والمخبرين ولاتسمح خطة العمل بالتواجد في مثل هذه الاماكن اوحتى المرور بها ، ومع ذلك كان على حميد تنفيذ المهمة .
وبما انه يعرف المناضلة ( ام بدران ) فأن المهمة قد تتم دون صعوبات كبيرة ،هذا اذا ما تعرفت عليه بسهولة ، حيث كان اخر لقاء بينهما قبل ستة عشرعاما في سجن الحلة عندما كانت هذه الام البطلة تأتي الى هناك لمواجهة ابنها السجين بدران ، حاملة معها اخرادبيات الحزب ، وفي واحدة من تلك المواجهات عثر حراس السجن في الحاجيات التي كانت قد جلبتها الى بدران جريدة ( طريق الشعب ) السرية التي كانت تصدر بخط اليد ، وتعرضت الام البطلة على اثرها للاعتقال وللتعذيب الوحشي الا انها صمدت وانكرت معرفتها بالامر .
وفي ضحى يوم اخر كانت ليلته ممطرة جعلت الجو يميل قليلا الى البرودة رغم الصحو الغالب عليه ، توجه حميد الى منطقة بغداد الجديدة قاصدا السوق تحديدا ، اوصلته سيارة التاكسي الى مقصده قرب جامع السامرائي ، ودلف الى السوق من خلف الجامع ، كانت الارض كالعادة في ايام الشتاء تتحول الى مستنقع من الاوحال ولكن ذلك لايمنع الباعة والكسبة الكادحين من عرض بضائعهم مختارين الاركان اليابسة نسبيا، كما ان المتسوقين لم يتوقف سعيهم وبحثهم عن احتياجاتهم من الخضار والفواكه واللحوم التي عادة ما تكون ارخص قليلا من اسواق المناطق الراقية .
كان حميد حذرا باحثا عن تلك المرأة التي تبيع السمك بواسطة عربة خشبية زرقاء اللون ذات الثلاث عجلات ، والغاية ليس العثور عليها فحسب بل لغرض اتمام مهمة الاتصال بالرفيق بدران ، وان وجود كلمة السر سيذلل الصعوبات ، لقد شخصها عن بعد ، كانت جالسة الى جابب العربة على مقعد صغير ، يساعدها شاب يافع في سن المراهقة ، عرفها من هيئتها المتميزة اذ يجمع محياها بين البشاشة وعلامات الهموم وقساوة الزمن التي انعكست على حالتها عموما ، الا ان ذلك لم يبدل شيئا من شخصيتها القوية الشامخة ، تقدم منها وهو يبتسم ، لعلها تتعرف عليه ، ردت عليه السلام بهدوء تام ، ولكن نظراتها كانت تعكس ترقبا واضحا ممزوجا بالقلق والصبر الحكيم ، وكالعادة في العمل السري عليه ان لايتأخر في اتمام المهمة .
قال لها : اريد سمكا ، ردت عليه : تفضل السمك امامك ، قال ( اريد سمك الشبوط ) وهذه كلمة السر ، وحينما سمعتها تغير مزاجها وابتسمت وبان عليها الفرح الغامر ، اقتربت منه وحيته بحرارة كبيرة وهمست بصوت خافت
- انا سوف امشي وانت تتبعني
وقبل ان تتحرك تناولت سمكتين ووضعتهما في كيس من نايلون وقدمتهما الى( حميد ) للتمويه .
سارت بأتجاه احد الشوارع الفرعية ، وكان حميد يتبعها ، وفي منتصف الطريق تباطأت في المشي حتى لحق بها ، فقالت له : سوف ادخل احد البيوت وعليك ان تظل ماشيا وسوف يتبعك طفل على دراجة هوائية وهوالذي سيوصلك الى ( شبوط ) اتمنى لكم الانتصار على اعدائكم ، وقبل ان تودعه ذكرها حميد بأيام السجن ، فعرفته واعتذرت منه وقالت له : العتب على النظر ياولدي العزيز، ولعنت النظام ومن اتى به .
ظل حميد سائرا بعد ان ودعها لحين لحق به ذلك الطفل ، استمر المسير من شارع الى شارع حتى وصلا منطقة النعيرية ، ولكنه كان يحصي كل ما يحيط به حتى نوافذ البيوت وما وتبدو خلفها من اية حركة غير عادية ، طبعا دون ان يجعل احدا يلحظه ، وقبل ان يقتربا من البيت المقصود توقف الطفل وقال لحميد : عمو سوف اسبقك واعود اليك ، وما لبث ان عاد مسرعا و مرتبكا وخائفا ،و قال لحميد : عمو بدران قد ترك البيت لان ذلك المكان اصبح معروفا لرجال الامن ،حينها صحا حميد من حلم اللقاء المرتقب مع رفيقه القديم ( بدران رسن ) ، واردف الطفل قائلا وبلهجته البسيطة – لازم ترجع وتدخل اي شارع فرعي لان هذا الشارع يمكن ان يكون مراقبا، اخذ نصيحة الطفل بعد ان ودعه ، وما ان تقدم بخطوات بألاتجاه المعاكس حتى تناهى الى سمعه صوت عجلات لسيارة مسرعه ، فألتفت بحذر لكي يستطلع الامر واذا بسيارة من نوع ( تيوتا ) حديثة العهد في البلد تستخدمها عادة اجهزة الامن وشرطة النجدة ولكنها بصورة تاكسي ،مطلية بالالوان ، الابيض و البرتقالي ، فتوقفت امام نفس البيت الذي دخله الطفل ومن ثم خرج منه وعاد الى حميد ليخبره بعدم وجود بدران هناك ، وترجل من السيارة خمسة اشخاص شاهرين اسلحتهم واقتحموا البيت المذكور .
وهكذا يفلت مرة اخرى من الاعتقال ، ففي مثل هذه الحالات يصبح حميد وكأنه سجينا هاربا من سجن و يحاول الابتعاد عن ذلك المكان مهما كانت العقبات التي تعترض سبيله ، فاخذ يسلك الشوارع الفرعية والازقة التي يصعب دخول السيارات فيها لكي يتوارى عن اعين الجواسيس ورجال الامن ، حتى وصل منطقة قناة الجيش ومن هناك استقل سيارة تاكسي الى اقرب مكان يمكنه التقاط انفاسه فيه قبل حلول الليل ، المكان هو بيت عائلة احد الرفاق من اقاربه مع ان ذلك الرفيق كان مسافرا الى خارج العراق هربا من الاعتقال ، الا ان العائلة كانت تعتز به وبالحزب وتستقبله باي وقت ، وصل الى ذلك البيت الآمن وبيده الكيس الذي بداخله سمكات ام بدران .
بعدها راجع تلك المعلومات التي وصلته من الحزب عن الرفيق بدران وتبين انه قد سبق ان سافر الى المجر في بداية الهجمة الشرسة على الشيوعيين ، لكنه عاد لظروف خارجة عن ارادته ، وبعودته استهدفته سلطات اجهزة الامن حيث كانت تبحث عنه في كل مكان ، اما هو ، فكان يحاول الاتصال بالحزب ، لكن المحاولة لم تتم ، بعدها حاول الذهاب الى كردستان مع مجموعة من الرفاق الا انهم وللاسف الشديد قد وقعوا جميعا بقبضة اجهزة العدو ، وكان من بين اؤلئك الرفاق الابطال كل من الشهيد قاسم موزان معلم من اهالي مدينة الشعلة ، والشهيد ابراهيم رشيد الاوسي موظف في الاصلاح الزراعي ، والشهيد ياسين رشيد الاوسي طبيب تخدير، والشهيد خليل رشيد الاوسي طالب ، وكذلك الشهيد بدران رسن كاسب ، واخرين .يتبع